في ظل التحولات العالمية في فلسفة العقاب، لم يعد السجن هو الحل الوحيد الذي تلجأ إليه الدول لمعالجة الجريمة. بل أصبح التركيز يتجه نحو إعادة تأهيل الجاني ودمجه في المجتمع، خاصة في الجرائم التي لا تشكل خطرًا جسيمًا على الأمن العام. ومن هنا جاءت المادة (25 مكررة) من قانون العقوبات الأردني المعدل، لتُجسد هذا التوجه التشريعي الحديث، وتفتح الباب أمام القضاء الأردني لتطبيق بدائل للعقوبات السالبة للحرية، وفق ضوابط قانونية دقيقة، تراعي مصلحة الفرد والمجتمع على حد سواء.
أولًا: السياق التشريعي للمادة (25 مكررة)
تم إدراج المادة (25 مكررة) ضمن التعديلات الأخيرة على قانون العقوبات الأردني، في إطار إصلاحات قانونية تهدف إلى تحديث المنظومة الجزائية، وتخفيف الضغط على مراكز الإصلاح والتأهيل، وتحقيق العدالة التصالحية. وقد جاءت المادة في أحد عشر بندًا، تفصل فيها شروط استبدال العقوبة، أنواع البدائل، القيود، والضمانات القانونية.
من حيث المبدأ، تمنح المادة للمحكمة صلاحية استبدال العقوبة السالبة للحرية ببدائل أكثر مرونة، في الجنح كافة، وفي الجنايات التي لا تتجاوز عقوبتها ثلاث سنوات من الأشغال أو الاعتقال المؤقت، بشرط ألا يكون المحكوم عليه مكررًا، وأن يُستند القرار إلى تقرير الحالة الاجتماعية، مع مراعاة ظروف كل دعوى على حدة.
ثانيًا: أنواع البدائل القانونية
حددت المادة ستة بدائل يمكن للمحكمة أن تختار منها، وهي:
1. الخدمة المجتمعية
وهي إلزام المحكوم عليه، وبموافقته، بالقيام بعمل غير مدفوع الأجر لخدمة المجتمع، لمدة لا تقل عن 50 ساعة، بمعدل خمس ساعات يوميًا. هذا النوع من العقوبة يهدف إلى تعزيز الشعور بالمسؤولية لدى الجاني، وتحويل العقوبة إلى مساهمة إيجابية في المجتمع.
2. البرامج التأهيلية
تُخضع المحكمة المحكوم عليه لبرامج تهدف إلى تقويم سلوكه وتحسينه، مثل برامج إدارة الغضب، أو مهارات التواصل، أو إعادة بناء الذات. هذه البرامج تُعد من أهم أدوات إعادة التأهيل، وتُستخدم في العديد من الدول المتقدمة.
3. العلاج من الإدمان
إذا كان المحكوم عليه يعاني من الإدمان، يمكن إخضاعه لبرنامج علاجي، بشرط موافقته. هذا الخيار يُعد خطوة إنسانية، تعترف بأن بعض الجرائم ترتبط بأسباب صحية ونفسية، وأن العلاج قد يكون أكثر فاعلية من السجن.
4. المراقبة الإلكترونية
تتبع تحركات المحكوم عليه باستخدام وسائل إلكترونية مثل السوار الإلكتروني أو تطبيقات الهاتف، مما يسمح له بالبقاء في منزله أو ممارسة حياته الطبيعية، مع ضمان الرقابة القضائية.
5. حظر ارتياد أماكن محددة
تمنع المحكمة المحكوم عليه من دخول مناطق معينة، مثل أماكن ارتكاب الجريمة أو مناطق يُحتمل أن تؤدي إلى تكرار السلوك الإجرامي.
6. الإقامة الجبرية الجزئية أو الكلية
تلزم المحكمة المحكوم عليه بالبقاء في منزله أو منطقة جغرافية محددة، بشكل جزئي أو كلي، للمدة التي تحددها، على أن تكون مقترنة بالمراقبة الإلكترونية.
ثالثًا: التدابير الاحترازية المرافقة
تمنح المادة للمحكمة صلاحية إقران أي بديل من البدائل السابقة بتدبيرين إضافيين:
- منع السفر لمدة محددة، لمنع المحكوم عليه من مغادرة البلاد أو التنقل بحرية.
- تقديم تعهد مالي بعدم التعرض أو التواصل مع أشخاص أو جهات معينة، مما يوفر حماية قانونية للضحايا أو الأطراف المتضررة.
هذه التدابير تُعزز من فعالية البدائل، وتمنع إساءة استخدامها، وتُحقق التوازن بين الحرية الفردية والأمن المجتمعي.
رابعًا: ضوابط المدة والتنفيذ
تشترط المادة أن لا تقل مدة البديل عن ثلث مدة العقوبة الأصلية ولا تزيد عليها، مما يضمن أن البديل لا يُستخدم كوسيلة للتهرب من العقوبة، بل كأداة لإعادة التأهيل. وتُحدد المحكمة أو قاضي تنفيذ العقوبة مدة التنفيذ، بحيث لا تقل عن شهر ولا تزيد على سنتين في الجنح، ولا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات في الجنايات.
كما تشترط المادة أن يصدر حكم بالعقوبة السالبة للحرية أولًا، قبل استبدالها بالبديل المناسب، مما يُحافظ على هيبة القضاء ويمنع التلاعب بالإجراءات.
خامسًا: الاستثناءات القانونية
- رغم مرونة المادة، فقد استثنت الجرائم الخطيرة من إمكانية الاستبدال، وهي:
- الجنايات الواقعة على أمن الدولة.
- جنايات تزوير البنكنوت والمسكوكات.
- الجنايات الواقعة على الأشخاص ما لم تقترن بالصفح أو إسقاط الحق الشخصي.
- الجنايات المخلة بواجبات الوظيفة العامة.
- جنايات الاغتصاب وهتك العرض والخطف الجنائي.
- جرائم التعذيب المنصوص عليها في المادة (208).
- الجرائم المنصوص عليها في قانون منع الإرهاب.
- الجنايات المنصوص عليها في قانون المخدرات والمؤثرات العقلية.
- الجرائم المنصوص عليها في قانون حماية أسرار ووثائق الدولة.
- الجنايات المنصوص عليها في قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
- الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكري وقانون خدمة العلم والخدمة الاحتياطية.
هذه الاستثناءات تعكس حرص المشرّع على عدم التفريط في الردع في الجرائم ذات الأثر المجتمعي العميق، وتُحافظ على هيبة الدولة وسيادة القانون.
سادسًا: الرقابة القضائية والطعن
القرارات الصادرة في طلبات الاستبدال قابلة للطعن أمام المحكمة المختصة، وفقًا للأصول والمواعيد المقررة قانونًا. كما يحق للمشتكي أو المدعي بالحق الشخصي الطلب من النيابة العامة الطعن في قرار قبول طلب الاستبدال، مع بيان الأسباب، مما يُعزز من شفافية الإجراءات ويُحقق العدالة للطرفين.
سابعًا: فلسفة المادة في ضوء العدالة التصالحية
تُجسّد المادة (25 مكررة) تحولًا في النظرة إلى الجريمة والعقاب، حيث لم يعد الهدف هو الزجر فقط، بل إعادة تأهيل الفرد وتحقيق العدالة التصالحية. كما أنها تفتح المجال أمام القضاء لتطبيق حلول أكثر مرونة وإنسانية، تراعي ظروف المحكوم عليه وتمنحه فرصة للاندماج الإيجابي في المجتمع.
إن تطبيق هذه المادة يُسهم في:
- تخفيف الاكتظاظ في مراكز الإصلاح والتأهيل.
- تقليل كلفة السجن على الدولة.
- تعزيز الشعور بالعدالة لدى المجتمع.
- تقليل معدلات العود للجريمة.
- تحسين صورة النظام القضائي الأردني دوليًا.
ثامنًا: مقارنة دولية
تُعد بدائل العقوبات السالبة للحرية جزءًا من منظومة العدالة الإصلاحية المعتمدة في العديد من الدول، مثل:
- فرنسا: تعتمد الخدمة المجتمعية والمراقبة الإلكترونية.
- السويد: تُركز على برامج التأهيل والعلاج النفسي.
- كندا: تُطبق الإقامة الجبرية والمراقبة الإلكترونية بشكل واسع.
- المغرب وتونس: بدأت خطوات مشابهة في تعديل قوانين العقوبات.
وهذا يُظهر أن الأردن يسير في الاتجاه الصحيح، ويواكب المعايير الدولية في حقوق الإنسان والعدالة الجنائية.
خاتمة
المادة (25 مكررة) ليست مجرد تعديل قانوني، بل تعبير عن تحول عميق في فلسفة العقاب، من الردع إلى الإصلاح، ومن السجن إلى إعادة التأهيل. إنها دعوة لإعادة التفكير في مفهوم العدالة، وتحويلها من عقوبة إلى فرصة، ومن حرمان إلى بناء.
تطبيق هذه المادة يتطلب وعيًا قضائيًا، وتعاونًا مؤسسيًا، وثقة مجتمعية، حتى تُحقق أهدافها في بناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية.