الوقف الذري في الأردن: بين الخصوصية العائلية والتحديات التشريعية

دار العلوم
المؤلف دار العلوم
تاريخ النشر
آخر تحديث

الوقف الذري هو تجسيد قانوني لفكرة "الاستدامة العائلية"، حيث يُحبّس الأصل وتُخصص منفعته لذرية الواقف، لا للمجتمع العام. إنه ليس مجرد تصرف مالي، بل إعلان رمزي عن رغبة الفرد في أن يمتد أثره عبر الأجيال، في صورة حماية أو رعاية أو تمييز إيجابي. في هذا النوع من الوقف، تتحول الملكية من كونها أداة فردية إلى بنية قانونية تخدم النسب، وتُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والميراث، خارج إطار التوزيع التقليدي.

 الفرق بين الوقف الذري والوقف الخيري

الوقف الذري يتجه نحو الداخل، نحو الأسرة والدم، بينما الوقف الخيري يتجه نحو الخارج، نحو المجتمع والإنسانية. الأول يُعنى بالاستمرارية العائلية، والثاني يُعنى بالمنفعة العامة. من الناحية القانونية، يختلفان في جهة الاستحقاق، وفي الرقابة، وفي المصير بعد انقراض الذرية. الوقف الذري قد يُنظر إليه كأداة لحماية الإرث من التشتت، بينما يُنظر إلى الوقف الخيري كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية. كلاهما يحمل بعدًا أخلاقيًا، لكن أحدهما يُؤسس للخصوصية، والآخر يُؤسس للتكافل.

أهمية الموضوع في السياق الأردني الحديث

في الأردن، حيث تتقاطع التقاليد العشائرية مع تطورات القانون المدني والشرعي، يبرز الوقف الذري كأداة حساسة لإعادة تشكيل مفهوم الملكية العائلية. مع تصاعد الحاجة إلى تنظيم الإرث، وتزايد النزاعات حول التركات، يصبح الوقف الذري وسيلة ذكية لتفادي التفكك المالي بعد الوفاة. كما أنه يطرح تساؤلات عميقة حول العدالة، والمساواة بين الذرية، ودور الدولة في تنظيم الأوقاف الخاصة. في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية، يعيد الوقف الذري تعريف العلاقة بين القانون والهوية العائلية.

استعراض قانون الأوقاف الأردني وأي تشريعات ذات صلة

قانون الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردني لسنة 2001 يُعد الإطار التشريعي الأساسي الذي ينظم مفهوم الوقف، ويمنحه طابعًا مؤسسيًا يربط بين الإرادة الفردية والرقابة العامة. يُعرّف القانون الوقف بأنه "حبس عين المال المملوك على حكم ملك لله تعالى على وجه التأبيد"، ويُميز بين الوقف الخيري والذري، مما يمنح الوقف الذري اعترافًا قانونيًا واضحًا. كما يتقاطع هذا القانون مع أحكام القانون المدني الأردني، خاصة في المواد المتعلقة بإدارة الوقف واستحقاق منفعته، مما يخلق شبكة تشريعية دقيقة توازن بين نية الواقف ومصلحة الورثة.

يُشكّل الوقف الذري حالة قانونية خاصة تتقاطع فيها الإرادة الفردية مع الضوابط الشرعية والرقابة المؤسسية. فالمادة (20) من قانون الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية لسنة 2001 تُرسّخ مبدأ التوازن بين حرية الواقف في تخصيص منافع الوقف لذريته، وبين الالتزام بأحكام المواريث في الشريعة الإسلامية، كما ورد في قانون الأحوال الشخصية، مما يمنع استخدام الوقف الذري كأداة للتهرب من قواعد الإرث أو لتكريس التمييز داخل الأسرة.

أما المادة (21)، فتُعيد تعريف دور الدولة في الوقف الذري، ليس كمجرد جهة تسجيل، بل كجهة رقابية فاعلة، تُراقب أعمال المتولين، وتُبلغ المحكمة الشرعية عن أي مخالفة أو تقصير، وتطلب عزل المتولي ومحاسبته عند الحاجة، مما يُضفي على الوقف الذري طابعًا مؤسسيًا يحدّ من الانحرافات الفردية.

وتأتي المادة (22) لتُكمل هذا البناء، حيث تمنح الوزارة صلاحية الإشراف والإدارة على الوقف الذري، سواء بشكل منفرد أو بالشراكة مع المتولي، بقرار من القاضي الشرعي، وتُحدد نسبة إدارية لا تتجاوز 10% أو 5% حسب طبيعة التولية، مما يُحوّل الوقف الذري من كيان خاص إلى نموذج إداري خاضع للحوكمة، ويُعيد صياغة العلاقة بين المال الموقوف والجهة المستفيدة ضمن إطار رقابي شفاف.

موقف القانون من الوقف الذري: هل يُجيزه؟ هل يضع قيودًا؟

القانون الأردني يُجيز الوقف الذري صراحة، ويُقرّ بشرعية تخصيص منافع الوقف لذرية الواقف، بشرط أن يُنص على ذلك في حجة الوقف. لكنه لا يترك الباب مفتوحًا بلا ضوابط؛ إذ يشترط أن تنتقل المنفعة إلى جهة بر عند انقراض الذرية، مما يضمن عدم تعطيل المال الموقوف. كما يُقيّد القانون تصرف المنتفعين بالوقف، فلا يُسمح لهم بتأجيره أو بيعه إلا بإذن ناظر الوقف، وفقًا للمادة 751 من القانون المدني الأردني، التي تُرسّخ مبدأ "المنفعة بلا بدل". هذه القيود لا تُضعف الوقف الذري، بل تُعيد ضبطه ضمن منظومة شرعية توازن بين الاستدامة والرقابة.

دور المحاكم الشرعية في تسجيل وإدارة هذا النوع من الوقف

المحاكم الشرعية في الأردن تُشكّل البوابة القانونية لتوثيق الوقف الذري، حيث تُسجّل حجج الوقف وتُراقب شروطه، وتُعيّن الناظر الذي يتولى إدارة المال الموقوف. هذا الدور لا يقتصر على التوثيق، بل يمتد إلى الفصل في النزاعات بين الورثة، وتفسير شروط الواقف عند الغموض أو الانقطاع. المحاكم تُمارس سلطة تأويلية تُعيد قراءة نية الواقف ضمن السياق الشرعي، وتُوازن بين النص والمصلحة، مما يجعلها حارسًا رمزيًا لاستمرارية الوقف الذري كأداة قانونية واجتماعية.

كيف يُستخدم الوقف الذري لضمان استمرارية الملكية داخل الأسرة

الوقف الذري يُعد أداة قانونية ذكية لحماية الملكية العائلية من التفتت أو الضياع عبر الأجيال. فهو يُحوّل المال من كيان قابل للتوارث إلى أصل محبوس تُسبّل منفعته للذرية، مما يضمن بقاء العقار أو المشروع أو الأرض داخل دائرة الأسرة، دون أن يخضع لقواعد التوزيع التقليدية التي قد تُفكك الملكية إلى حصص صغيرة غير منتجة. بهذا المعنى، يصبح الوقف الذري بمثابة "درع قانوني" يحفظ وحدة الأصل، ويُعيد تعريف الإرث كمنفعة مستدامة لا كملكية قابلة للتجزئة.

أمثلة واقعية أو افتراضية من المجتمع الأردني

في المجتمع الأردني، لا تزال بعض العائلات تستخدم الوقف الذري لحماية أراضٍ زراعية أو عقارات تجارية من البيع أو التقسيم، خاصة في المناطق التي تشهد ضغطًا عمرانيًا أو ارتفاعًا في أسعار الأراضي. على سبيل المثال، قد يقوم أحد كبار العائلة بوقف قطعة أرض في وسط المدينة لصالح ذريته، مشترطًا استخدامها كسكن أو كمصدر دخل عبر التأجير، دون السماح ببيعها. هذا النوع من الوقف يُحافظ على القيمة الرمزية والاقتصادية للمكان، ويمنع النزاعات بين الورثة. كما يُلاحظ في بعض الحالات أن الوقف الذري يُستخدم لحماية إرث ثقافي، مثل مكتبة خاصة أو بيت تراثي، يُمنع بيعه ويُخصص لاستعمال ذري معين.

العلاقة بين الوقف الذري وقوانين الإرث والميراث

الوقف الذري يُشكّل استثناءً مشروعًا من قواعد الإرث، لكنه لا يُلغِيها، بل يُعيد ترتيبها ضمن إطار شرعي وقانوني. فالمادة (20) من قانون الأوقاف الأردني تشترط أن لا يتعارض الوقف الذري مع أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية، مما يعني أن الواقف لا يستطيع استخدام الوقف كأداة للإقصاء أو التمييز بين الورثة. بل يجب أن يُراعي العدالة في التوزيع، وأن يُحدد شروط الوقف بما يضمن استمرارية المنفعة دون الإضرار بحقوق الورثة. بهذا الشكل، يُصبح الوقف الذري أداة تكميلية لقانون الإرث، تُعيد صياغة العلاقة بين الملكية والوراثة، وتُحوّل الإرث من حدث نهائي إلى مشروع مستدام.

صعوبة الرقابة على الأوقاف الذرية

الوقف الذري، بطبيعته الخاصة، يُدار غالبًا داخل نطاق عائلي مغلق، مما يُضعف الرقابة المؤسسية ويُعقّد مهمة التتبع الإداري. فالمتولي قد يكون من ذرية الواقف، ما يخلق تضاربًا بين المصلحة الشخصية والواجب الوقفي. ورغم أن المادة (21) من قانون الأوقاف الأردني تُخول الوزارة مراقبة أعمال المتولين وتبليغ المحكمة الشرعية عن أي مخالفة، إلا أن التطبيق العملي يواجه تحديات تتعلق بضعف التنسيق، غياب قواعد بيانات دقيقة، وتفاوت فهم النظار لشروط الوقف. هذا الغموض الإداري يُهدد استدامة الوقف ويُضعف أثره التنموي، خاصة إذا لم تُفعّل أدوات الحوكمة الوقفية بصرامة.

تعارضها أحيانًا مع مبدأ العدالة في التوزيع

الوقف الذري قد يتحوّل من أداة حماية إلى أداة إقصاء، إذا استُخدم لتفضيل الذكور على الإناث، أو لاستبعاد فروع معينة من الذرية. وقد بيّنت دار الإفتاء الأردنية أن الوقف الذي يُقصي الإناث أو يُخصص الذكور فقط يُعد صحيحًا من حيث الوقف، لكن شرط التمييز باطل ويُقسّم الوقف وفق الفريضة الشرعية. هذا التعارض بين نية الواقف ومبدأ العدالة يُثير جدلًا فقهيًا وقانونيًا، ويُعيد طرح سؤال جوهري: هل الوقف الذري يُكرّس التفاوت داخل الأسرة أم يُعيد توزيع الملكية بطريقة عادلة؟ في السياق الأردني، يُصبح هذا السؤال أكثر حساسية في ظل التحولات الاجتماعية ومطالب المساواة بين الجنسين.

إشكالية التحول من الذري إلى الخيري بعد انقراض الذرية

عند انقراض الذرية، يتحول الوقف الذري إلى خيري، وفقًا لما نصّت عليه المادة (20) من قانون الأوقاف الأردني، لكن هذا التحول لا يتم دائمًا بسلاسة. فغياب حجة الوقف، أو غموض شروط الواقف، قد يُعقّد تحديد الجهة الخيرية المستحقة، ويُفتح الباب أمام الاجتهادات المتضاربة. كما أن بعض النظار قد يُعيد توجيه ريع الوقف دون الرجوع إلى المحكمة الشرعية، مما يُخالف شرط الواقف ويُضعف الثقة في النظام الوقفي. هذه الإشكالية تُبرز الحاجة إلى سجل وقفي موحد، وآلية قضائية واضحة لتفعيل التحول الخيري دون إخلال بروح الوقف الأصلي.

تعديل تشريعي لتوضيح شروط الوقف الذري

الوقف الذري في الأردن لا يزال يتحرك ضمن مساحة رمادية تشريعية، حيث تُترك الكثير من تفاصيله لاجتهاد القاضي أو تفسير حجة الواقف. لذلك، فإن الحاجة إلى تعديل تشريعي باتت ملحّة، لا لتقييد الوقف الذري، بل لتوضيح شروطه وضبطه. يمكن أن يتضمن التعديل إلزام الواقف بتحديد جهة التحول الخيري بعد انقراض الذرية، وتوضيح آلية تعيين الناظر، وتحديد شروط الاستحقاق بين الذكور والإناث بما يتوافق مع الفريضة الشرعية. هذا التعديل لا يُضعف الوقف الذري، بل يُعيد تأطيره ضمن منظومة قانونية شفافة تحمي نية الواقف وتمنع الانحرافات.

إنشاء سجل وطني للأوقاف الذرية

غياب قاعدة بيانات مركزية للأوقاف الذرية يُضعف الرقابة ويُعقّد الإدارة، خاصة في حالات النزاع أو التحول الخيري. إنشاء سجل وطني رقمي للأوقاف الذرية، تحت إشراف وزارة الأوقاف وبالتنسيق مع المحاكم الشرعية، سيُشكل نقلة نوعية في الحوكمة الوقفية. هذا السجل يجب أن يتضمن بيانات الواقف، نوع الوقف، شروطه، الناظر، المنتفعين، وتاريخ التحول المحتمل. كما يمكن ربطه بمنصة إلكترونية تتيح للذرية الاطلاع على حقوقهم، وللقضاء تتبع الوقف عند الحاجة. بهذا الشكل، يتحول الوقف الذري من وثيقة ورقية إلى كيان قانوني حي، قابل للتتبع والمساءلة.

تعزيز الرقابة القضائية والشرعية على هذا النوع من الوقف

الرقابة على الوقف الذري لا يجب أن تكون شكلية أو موسمية، بل مستمرة ومتعددة المستويات. يمكن تعزيز الرقابة القضائية عبر إلزام النظار بتقديم تقارير دورية للمحكمة الشرعية، وتفعيل دور وزارة الأوقاف في التدقيق المالي والإداري، كما تنص المادة (21) من القانون. كما يُمكن إنشاء وحدة متخصصة داخل الوزارة تُعنى بالأوقاف الذرية، وتُنسق مع القضاة الشرعيين لتقييم الأداء، والتحقق من الالتزام بشروط الوقف. هذه الرقابة لا تُقيد حرية الواقف، بل تحميها من سوء الإدارة، وتُعيد الثقة في الوقف الذري كأداة قانونية مستدامة.

خاتمة

الوقف الذري ليس مجرد إجراء قانوني لحبس المال، بل هو تعبير مركّب عن رغبة الفرد في أن تمتد هويته عبر الزمن، وأن يُعيد تشكيل العلاقة بين الملكية والقرابة ضمن إطار شرعي واجتماعي. إنه أداة تحفظ الإرث العائلي من التفتت، وتُعيد توزيع المنفعة بطريقة تضمن الاستمرارية، دون أن تُخالف أحكام المواريث أو تُقصي أحدًا من دائرة الاستحقاق. في السياق الأردني، حيث تتقاطع التقاليد العشائرية مع تطورات القانون الحديث، يبرز الوقف الذري كجسر بين الماضي والمستقبل، بين الإرادة الفردية والرقابة المؤسسية.

لكن هذا الجسر يحتاج إلى إعادة ترميم تشريعي، يُعيد تعريف شروط الوقف، ويُفعّل أدوات الرقابة، ويُحوّله من وثيقة ورقية إلى كيان قانوني حي. فالرؤية القانونية الحديثة لا تكتفي بالاعتراف بالوقف الذري، بل تُطالبه بأن يكون أكثر شفافية، أكثر عدالة، وأكثر قابلية للتنمية. من هنا، تبرز الحاجة إلى سجل وطني، إلى رقابة قضائية مستمرة، وإلى تعديل تشريعي يُعيد ضبط العلاقة بين الواقف والمنتفع، بين المال والغاية.

تعليقات

عدد التعليقات : 0